كآبة العرب
بسم الله الرحمن الرحـيم
لا أعرف كيف و لا من أين أبدأ كلامي ، بمجرد أن أمسكت بالقلم لم أستحضر أي كلمة أدخل بها في صميم الموضوع ، فالموضوع الذي أود الحديث عنه يحتاج لكتب و مقالات و عدة صفحات ، لأنه ببساطة موضوع عصرنا و موضوع كل العصور تقريبا ، منذ أن تخلينا على قيمنا و فقدنا مكانتنا كعرب بين الأمم ، منذ أن أصبحت روح العربي رخيصة سواء كان راشدا أو صبي ، منذ أن أصبحت كرامة المواطن لعبة في أيدي الرئيس الخائن و منذ أن أصبحت حقوقه مجرد حبر على ورق لا أقل و لا أكثر .
الموضوع هو تخلف العرب ، لن أحدثكم عن أسباب هذا التخلف فلاطالما تم ذكرها و هي واضحة وضوح الشمس ، و لن أكلمكم عن الحلول لأن التكلم عنها سهل و لكن تطبيقها يبقى شبه مستحيل على الأقل في الظرفية الحالية و الوقت الراهن ، أهم شيء في هذا التخلف العام و الظلم الإجتماعي و النفاق السياسي و الفساد الإداري و المؤسساتي بل حتى فساد المجتمع هو النتائج و الإنعكاسات ... و أي نتائج ... كآبة مزمنة للمواطن العربي ، فما يحدث حولنا من عبث بأموال الدولة و فساد يجعل أكثر المتفائلين بالحياة عرضة للإكتئاب !
و قد صنفت بعد الدراسات الدولية شعوب المناطق العربية على رأس قائمة الشعوب الأكثر كآبة في العالم ، و يعود انتشار هذه الكآبة حسب الدراسات إلى تردي الخدمات الإستشفائية و الإضطراب الأمني التي تنعكس سلبا على الأمل في الحياة ، لتحل دول شمال إفريقيا و الشرق الأوسط في مراتب الصدارة بين الدول التي تضيع فيها سنوات أعمار ساكنتها .
و هكذا يبدو أن قدر شعوب المنطقة أن تعيش تحت وطأة الكآبة المزمنة التي تسكن القلوب و الصدور و تقصر الأعمار .
المشكل مع الكآبة المزمنة أنها تأتيك فجأة بدون سابق إنذار ، فأحيانا يساورك سأم عميق و مفاجئ من كل شيء ، خصوصا عندما ترى السياسة و قد تحولت إلى عبث ، و مطالب الناس تقابل بالقمع في الشوارع ، و أصواتهم يتم خنقها حتى لا يصل أنينها إلى الأسماع ...
فجأة تسأم نفسك و عملك و نجاحك ، تريد أن ترجع خطوات إلى الوراء ، أن تعود ذلك المواطن النكرة الذي كنته ذات وقت ، تتجول في الشوارع دون أن ينتبه إليك أحد . تجلس على رصيف أول مقهى تصادفه لتضيع بعض ساعات يومك الممل في لاشيء ، تتمنى أن تسترجع صورتك الضائعة حيث ملامحك الطبيعية الأولى الهادئة و الخالية من التوثر و الغضب ، أن تعود لأصدقائك القدامى الذين تقاسمت معهم الأقسام الباردة في الثانوية ، و الشعارات الصاخبة في الجامعة ، و قصص الحب الفاشلة على العتبات الأولى للحياة .
فجأة يساورك سأم جارف من جلسات النفاق الإجتماعي التي يدعوك إليها أشخاص تافهون يعتقدون أنفسهم مهمين بالنسبة للعالم ... تشتاق إلى جلسات المساء فوق ربوة في ضواحي المدينة ، تراقب أسراب الطيور و هي تعود إلى أعشاشها لتطعم صغارها ، تشتاق إلى رؤية الأفق ملطخا بحمرة الغسق و الشمس المتمايلة إلى الغروب ، قبل أن تعود إلى البيت لتأكل خبز الأم المدهون بالعسل و تجلس إلى حضن الجدة لتحكي لك نفس القصص و الذكريات التي لا تتعب من ترديدها بنفس العبارات و الإبتسامات و الدموع .
يحدث أن تتعب من إسمك ، و تتمنى أن يكون لك إسم آخر لا يثير الإنتباه عندما ينادي عليك به أحدهم . تتعب من احترام الناس لك ، و تشتاق أحيانا إلى أن يعاملك الناس كأي نكرة ، باحترام أقل و كلمات خالية من الأدب المصطنع .
أحيانا يساورك سأم عميق من وطنك ، و تتمنى فقط أن تشتري تذكرة ذهاب بلا إياب إلى وطن آخر ، و بمجرد ما تصل و تضع حقيبتك تبحث لك عن امرأة أخرى تتزوجها و تنجب أطفالا آخرين و تصبح لك جنسية أخرى لا تثير الشبهات و جيران آخرون لا يثيرون أعصابك كل يوم برمي أعقاب سجائرهم على ثيابك المنشورة فوق حبل الغسيل .
تسأم من هؤلاء السياسيين البليدين جدا و الأنانيين جدا و الأميين في الغالب ، و الذين يدعون دائما تمثيلنا و يأخدون الكلمة دائما بأسمائنا في كل المناسبات . تتمنى أن تستريح من رؤية وجوههم السمينة و المملة التي قضينا حياتنا السابقة مضطرين لتحملها في الجرائد و التلفزيون و الجامعات و المقرات الحزبية و النقابية .
تسأم من اليمين المنافق و اليسار المخادع و الوسط المتواطئ ، و تتمنى لو أنك في جزيرة بعيدة بلا أحزاب ، بلا برلمان ، بلا حكومة ... تعيش على السمك و حبات الجوز و مياه الينابيع ، بلا شعارات و لا برامج و لا أكاذيب ... تتمنى أن تقضي وقتك في قراءة الخطوط على راحة كفك عوض قراءة الجرائد ، و في عد النجوم بالليل عوض عد الأيام التي تفصلك عن موعد تسلم راتبك .
تسأم من رؤية كل تلك الجيوش من العاطلين و المتسولين و الأطفال الضائعين في الشوارع ، كل أولئك الفتيات مكسورات الجناح الجالسات في المقاهي بانتظار من يشتري منهن لحمهن الطري .
تسأم رؤية كل هذا الظلم دون أن تكون قادرا على فعل أي شيء لصالح المظلومين ، و هذا المنكر دون أن تكون قادرا على تغييره ، و هذا اللعب بمصائر الناس دون أن تكون قادرا على إطلاق صفارة إنذار ، لإعلان هذه اللعبة السخيفة التي طالت أكثر من اللازم !
إن أعجبك المقال فاضغط على لايك و ساهم في استمرارنا و تطورنا و شجعنا ببرطاج و مشاركة للموضوع
|
|
|
|